سوريا بعد الأسد- تحولات جيوسياسية وتوازنات قوى جديدة في الشرق الأوسط

المؤلف: محمود علوش09.28.2025
سوريا بعد الأسد- تحولات جيوسياسية وتوازنات قوى جديدة في الشرق الأوسط

بعد مرور أربعة عشر عامًا على اندلاع الثورة ضد حكم الدكتاتور بشار الأسد، وبعد خمسة عقود من الخضوع القسري تحت سلطة الدولة القمعية التي أسسها والده، استطاع الشعب السوري أخيرًا أن يضع نهاية لحكم عائلة الأسد.

إن تطلع السوريين إلى بناء دولة تقوم على أسس ديمقراطية راسخة، والتعددية السياسية الحقيقية، ودولة القانون التي تحترم المؤسسات، لا يعني بالضرورة أن الطريق لتحقيق هذا الهدف سيكون سهلًا وميسرًا. لكن مجرد تجاوز هذه الحقبة المظلمة والطويلة في تاريخ البلاد يمثل بداية واعدة لمشروع بناء سوريا الجديدة.

ومع ذلك، فإن الصراع في سوريا لم يكن مجرد صراع بين الشعب ونظام الحكم، بل كان أيضًا صراعًا إقليميًا وعالميًا على النفوذ في سوريا، مما يجعل التحول السوري بمثابة زلزال جيوسياسي ضخم يهز منطقة الشرق الأوسط بأكملها، وستمتد ارتداداته حتمًا إلى ما وراء حدود المنطقة.

على مدار الأعوام الأربعة عشر الماضية، تحولت سوريا إلى ساحة صراع بالوكالة بين العديد من الدول التي تسعى جاهدة لتحقيق مصالحها ونفوذها. وتُظهر الآثار العميقة لهذا الصراع على سياسات القوى الخارجية المنخرطة فيه، دوره المحوري في إعادة تشكيل العلاقات المتبادلة بين هذه القوى على نطاق أوسع.

فمن جهة، أدى التدخل الروسي والإيراني في الحرب لدعم نظام الأسد إلى نشوء شراكة استراتيجية متينة وعميقة بين موسكو وطهران. ومن جهة أخرى، أعاد الصراع تشكيل طبيعة العلاقات بين تركيا وروسيا، وبين تركيا والولايات المتحدة. وحتى قبل أن تبدأ تركيا في إصلاح علاقاتها مع الدول العربية في بداية العقد الحالي، كان للصراع السوري دور مؤثر في تحديد شكل علاقات تركيا مع بعض القوى العربية الفاعلة خلال العقد الماضي.

إن هذا التحول الدراماتيكي الذي حدث في الصراع، والذي تمثل في الإطاحة بنظام الأسد، سيكون له آثار عميقة على أدوار القوى الفاعلة والمؤثرة في هذا الصراع، وعلى طبيعة علاقاتها المتبادلة، وعلى مكانتها وموقعها في منطقة الشرق الأوسط.

وعند تقييم ميزان الرابحين والخاسرين الخارجيين من هذا التحول، تبرز تركيا كأحد أكبر المستفيدين. فمن ناحية، سيعزز هذا التحول دور أنقرة في صياغة مستقبل سوريا بعد الحرب، وسيضمن لها تأسيس دولة سورية جديدة متحالفة معها.

ومن ناحية أخرى، فإن تحول الهوية الجيوسياسية لسوريا من دولة حليفة لإيران وروسيا إلى دولة صديقة لتركيا، سيجلب لأنقرة مكاسب جيوسياسية عظيمة، ويعزز طموحاتها في لعب دور قيادي في منطقة الشرق الأوسط.

ومن بين الفوائد المتوقعة لتركيا، ضمان معالجة الصراع بما يتماشى مع مصالحها الحيوية ومتطلبات أمنها القومي، ورؤيتها للدور الذي تطمح أن تلعبه في الشرق الأوسط كوسيط للاستقرار والقوة. وتتراوح هذه الفوائد بين لعب دور قيادي بين القوى الخارجية في تشكيل مستقبل سوريا، وتعزيز موقفها في مواجهة المشروع الانفصالي الذي تتبناه الوحدات الكردية في شمال سوريا، وتقوية مركزها في تفاعلاتها مع كل من إيران وروسيا والولايات المتحدة والعالم العربي.

كما توفر هذه التحولات فرصة ذهبية لأنقرة لفرض مصالحها في علاقاتها المستقبلية مع إدارة الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب.

ومع ذلك، فإن هذه الفوائد المحتملة تحمل في طياتها أيضًا تحديات جسيمة تواجه تركيا في إدارة مشروع ولادة سوريا الجديدة. وبالنظر إلى النفوذ الكبير الذي تتمتع به تركيا الآن في سوريا، فإن ذلك يجعلها تتحمل مسؤولية خاصة لضمان عدم انزلاق التحول السوري إلى وضع ينطوي على مخاطر تفوق الفوائد.

وعلى الرغم من أن أنقرة دأبت على نفي أي صلة لها بهيئة تحرير الشام، فإنه من الصعب تصور أنها كانت على الحياد في التحولات التي شهدها الصراع منذ السابع والعشرين من نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي.

وسيختبر مسار التحول السوري أولًا مدى قدرة أنقرة على الحفاظ على وحدة أهداف الفصائل المعارضة المتنوعة بعيدًا عن التنافس والاقتتال الداخلي، وثانيًا مدى قدرتها على التأثير على هيئة تحرير الشام لضمان استمرار التحولات التي بدأتها على نفسها منذ انفصالها عن تنظيم القاعدة.

وإلى جانب تركيا، تظهر الولايات المتحدة وإسرائيل كأحد المستفيدين من التحول في سوريا. فمجرد إخراج سوريا من دائرة التحالف مع الأنظمة المعادية للغرب مثل إيران وروسيا، يعتبر مكسبًا جيوسياسيًا كبيرًا لهما.

غير أن هذا التحول يحمل في طياته مخاطر محتملة على كلا البلدين. فبينما كان التصور السائد في الماضي يشير إلى أن سوريا في ظل حكم عائلة الأسد كانت تمثل فائدة لإسرائيل من حيث ضمان أمنها أو من حيث تقويض أسس التنوع السياسي الداخلي في سوريا، فإنه من الصعب الجزم بأن سوريا المتحولة، والتي ترتكز هويتها الجيوسياسية الجديدة على التحالف مع تركيا، ستكون أكثر فائدة للإسرائيليين. أما بالنسبة للعالم العربي، فإن معيار الربح والخسارة من هذا التحول يبدو غامضًا وغير واضح.

ففي حين أن الآثار الكبيرة لهذا التحول على النفوذ الإيراني في سوريا وعلى دورها الإقليمي تعود بفوائد جمة على المنطقة العربية، إلا أن هذه الفوائد لا تخفي القلق العربي من أن تؤدي الإطاحة بنظام الأسد إلى إطلاق العنان لموجة ثانية من موجات الربيع العربي.

ومع ذلك، فإن هذه التحولات تقدم للعالم العربي فرصة سانحة للعب دور أكثر فعالية في تشكيل مستقبل سوريا الجديدة، بما يملكه من إمكانات وقدرات وموارد مالية ضخمة تبدو ضرورية ولا غنى عنها لإعادة إعمار سوريا.

أما بالنسبة للخاسرين الكبار في هذا التحول، فتأتي إيران وروسيا في المقدمة. فقد استثمرت طهران أموالًا طائلة وموارد عسكرية ضخمة في هذا الصراع بهدف تعزيز نفوذها في هذا البلد، وتوسيع نطاق وجودها الاستراتيجي، وتأمين طريق بري يبدأ من أراضيها مرورًا بالعراق وسوريا وصولًا إلى حليفها حزب الله في لبنان. غير أن كل هذه الاستثمارات تبددت وانهارت بانهيار نظام الأسد.

ويحمل هذا التحول تداعيات كبيرة على دور إيران الإقليمي تتجاوز حدود الجغرافيا السورية. فقد أصبح حزب الله، الذي خرج من حرب شرسة مع إسرائيل بتكاليف باهظة، أكثر عرضة للحصار والضغط، بينما يفقد سوريا كحليف كان يضمن له القوة والنفوذ في لبنان وإمدادات الأسلحة لعقود طويلة.

كما أن انهيار الاستثمارات الإيرانية في سوريا سيؤثر سلبًا على نفوذ إيران في العراق والمنطقة بأسرها.

أما روسيا، فإن خسارة سوريا كدولة حليفة لها سيؤدي إلى عواقب وخيمة على دورها ومكانتها في الشرق الأوسط. وإذا كان انهيار الاتحاد السوفياتي يمثل أكبر كارثة جيوسياسية في القرن العشرين بالنسبة للرئيس فلاديمير بوتين، فإن خسارة سوريا تمثل كارثة جيوسياسية لروسيا في منطقة الشرق الأوسط.

لقد كان التدخل الروسي في الصراع إلى جانب نظام الأسد في منتصف العقد الماضي أحد أبرز مظاهر قدرة روسيا على فرض نفوذها في الخارج. لكنها اليوم تجني الثمن الباهظ لحربها مع أوكرانيا على مكانتها في الشرق الأوسط. وبعد هذه التحولات، تبدو قدرة روسيا على الاحتفاظ بقواعدها العسكرية على ساحل البحر الأبيض المتوسط على المدى البعيد، والتي تشكل ضرورة حتمية لها لممارسة نفوذها في سياسات الشرق الأوسط والصراعات البعيدة المدى مثل ليبيا والسودان وأفريقيا، موضع شكوك عميقة.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة